info@kazima.org +(00) 123-345-11

تزويق العبارة في مناقب الشيخ عمارة

د. إبراهيم عبدالغفار الطاهري

إنَّ لِسِيَرِ الأعلامِ وتراجم رموزِ كُلِّ أُمَّةٍ، أهميةً بالغةً في تاريخها وحاضرها ومستقبلها؛ إذ يكون الاهتمامُ مُنصبًّا على بعثِ العزائم، واستيقاظ الهِمم في النفوس التي ستُدرك عوامل الصلاح ومكامن الخلل؛ من أجل الإسهام في ترميم حضارة الأُمَّة.

في وداع الشيخ العالم المربي عمارة عبدالمطلب رحمه الله:

فقدتْ مصرُ عمومًا والكويت خصوصًا عَلَمًا من أعلامها، ورَجُلًا من رجال الرعيل الأول؛ فضيلة الشيخ العالِم العامل المقرئ عمارة عبدالمطلب، لقد أسهمَ الفقيدُ من خلال عمله مدرِّسًّا في مدارس الكويت، وكذلك عمله إمامًا وخطيبًا في مسجد العجيل في منطقة الفحيحيل في تدريس الناس وإلقاء الخطب والمحاضرات، وتدريس القرآن الكريم وعلومه.

أذكر للفقيد رُوْحَه المرحة، وسرعة بديهته، وحرصه على تلاميذه، والالتقاء بهم، والسؤال عنهم، والدعاء لهم، فقد كان رَجُلًا عظيمًا يوم وُلِدَ، ويوم سَعيه في الحياة، وكان عظيمًا يوم ماتَ.

فقد وافاه الأجلُ على أرضٍ طيبة مباركة هي أرضُ الكويت – حرسها الله تعالى – والشيخ معروفٌ في منطقة الفحيحيل، فهو ممن أقام في الكويت منذ فترة طويلة جدًّا، فقد كان حريصًا على تعليم كتاب الله تعالى، فما ضَعُفَت له قامة، ولا انثنتْ له عزيمة، ولا وَهِنَتْ له إرادة، ولا سكتَ له لسان، ولا اضطربَ له جَنان، ولا خالطَ ذاكرته النسيان على الرغم من نيِّف وثمانية عقود سكنت إهابه.

من صفاته الحميدة، وسجاياه الطيبة:

1- الصلابة في الرأي:

فقد كان رحمه الله صُلْبًا في رأيه، وهي صفةٌ محمودة فيه، فقد كان صُلْبًا في رأيه في الحق، ولو اجتمعَ الناس ليُزحزحوه عن رأيه ما تَزحزح عن ذلك، وهي صفةٌ ملازمةٌ له، وتُحسَب له في مواطنِ الحق والخير.

2- لا يأبه لما يُقال عنه من مدحٍ أو ذمٍّ:

ما كان المدحُ يغريه، وما كان الذمُّ يَثْنيه.

3- كان مدرسةً من طرازٍ متميز وتاريخ قديم.

4- كان متميزًا في العمل والنشاط:

فقد كان يأتي عمله مبكرًا سواء في المسجد أو المدرسة؛ ليُعلِّم الناسَ بجدٍّ ونشاطٍ وطُمأنينة.

5- كان وفيًّا لأهله وأقاربه وأصدقائه وتلاميذه ومحبِّيه، وكان يُضرَب به المثلُ في ذلك.

6- تفتُّحه وتفاؤله:

إنَّ السرَّ في شخصية الشيخ عمارة رحمه الله وبروزها أكامن الوفاء المتغلل في كِيانه، فقد كان مرتاحًا لأي شخصٍ في أي وسط، وفي جميع الأحوال تراه هو هو، منفتحًا متفائلًا مؤملًا مُسبِّحًا ذاكرًا.

7- وشائج محبَّته بين الناس:

كان الشيخ رحمه الله وفيًّا، نشأت فيه وشائجُ محبَّة الناس، فهو لهم في كل مناسبة، يُقاسمهم شواغلهم مُشجِّعًا، ويُشاركهم أفراحهم جذلًا لسعادتهم، ويتألم أسًى لأحزانهم، ويُشاركهم في أتراحهم.

8- شخصيته المتَّزنة:

اتَّسمت شخصيته بالذكاء، والفِطنة، وسرعة البداهة، والصدق، وحبِّ العلم، وكما يُقال: (عِندَ الصباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى) [2]، فقد حمدت سيرته، وتربيته على الالتزام والتديُّن اللذين كان لهما أثرٌ كبير في نفسه الزَّكية، حتى أورثَ كل صفاتٍ طيبة لتلاميذه.

9- بساطته وتوجيهه:

كان في حياته بسيطًا مع أنه كان موجِّهًا وورعًا ومُصْلحًا وتقيًّا، إنْ جالسته أحسستَ أنكَ أمام عملاق في العِلم، وإنِ استشرته وجدته جبلًا على بذْلِ النُّصْح والتعليم بين الناس، فقد كان عالِمًا مُحنَّكًا، إنْ تحدثتَ إليه أُعجبتَ بكلامه وسَمْتِه الْمُوقَّر.

10- كرمه عند استضافته للناس:

إذا استضاف أحدًا فقد كان الجودُ والسَّخاء والكرم وحُسْن الاستقبال سجيةً مطبوعةً فيه، يغمر جليسَه في ضيافته بشذا المودَّة، وعبق الكلام الندي.

11- طلبه للعِلْم وتحصيله وصبره على ذلك:

فقد ذكرَ لي رحمه الله أنه انشغلَ بطلبِ العلم منذ نعومة أظفاره، ولم يشغله عن تحصيل العلم أي شيءٍ آخرَ، فقد وفَّق الله عز وجل والديه أنْ يُهيِّئوه ليشبَّ على بساط الصلاح والعِلْم والالتزام، فطلبَ العلمَ صغيرًا حتى كان له الباع في كثيرٍ من العلوم كعلمِ القراءات.

فقد كان مثابرًا على اقتناص العلوم، وقد وفَّقه الله تعالى وأنعمَ عليه بذاكرةٍ قويةٍ استوعبتْ مجمل فنون المعرفة، فقد تربَّى في مراحل عُمره الأولى وفي عزِّ شبابه في كنفِ العلم والتعليم.

12- نشره للعلم وتعليم الناس:

كان رحمه الله قد جنَّد نفسه لتعليم الناس ونشرِ العلم، فقد درَّس في مدارس دولة الكويت من فترة السبعينيات إلى نهاية التسعينيات، ثُمَّ بعد أنْ كبرَ في السنِّ بقي على عمله الوحيد وهو الإمامة والخطابة والتدريس في مسجد العجيل في منطقة الفحيحيل، فكان لا يألو جهدًا في تدريس الناس القرآن الكريم وتحفيظه.

فقد أوقف رحمه الله حياته للعلم تعلُّمًا وتعليمًا، إفادةً واستفادةً، وخرَّج بفضل الله تعالى الكثير من الطلبة، وهم الآن يؤطرون القطاع الديني في دولة الكويت وخارجها؛ أئمةً وخطباءَ ومؤذنين ومرشدين ودعاة، بل يُوجد منهم أساتذة جامعيُّون، وإطارات سامية للأُمَّة في مجالاتٍ أخرى.

13- تركه لمصر وإقامته في الكويت:

كانت بداية مشواره في مصر لتعليم الناس وتدريسهم؛ لكنه حطَّ عصا الترحال وتوجَّه للإقامة في دولة الكويت في السبعينيات، فعُيِّن في بداية أمره أستاذًا في مدارس الكويت بمراحلها المختلفة، ثُمَّ عُيِّن إمامًا وخطيبًا في مساجد دولة الكويت – حرسها الله تعالى – حتى انتقلَ إلى مسجد العجيل في منطقة الفحيحيل، فقد أثمرَ تدريسه رحمه الله وأينعَ حال حياته، فقد كانت سعادته كبيرة جدًّا لرؤية طلابه وقد حصلوا على أعلى الشهادات والوظائف المرموقة، فقد انتشرَ خيره في جميع ربوع دولة الكويت.

14- صبره وتحمُّله المشاق:

كان رحمه الله صابرًا محتسبًا، يجلس الساعات الطويلة في مسجد المدرسة لتعليم الناس وتحفيظهم القرآن الكريم الساعات الطوال دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، فكان مثالًا حيًّا للصبر وتحمُّل المشاق والمعاناة بصدرٍ رحب مع ثقةٍ بالله تعالى بالفرج في كل أموره، والاتِّكال على الله تعالى في تيسيرها، فكيف لا ومَنِ استعان بالله تعالى تيسَّرَتْ مطالبُه ونجحَتْ مآربُه.

15- صلاح نفسه وتقواه:

الشيخ رحمه الله أصلح نفسه، فأصلحَ اللهُ تعالى به أناسًا كثيرين، فقد كان أُمَّةً في الأسوة الحسنة؛ بعلمه، وعمله، وكلماته، وسلوكه.

16- مُروءته وهندامه:

كان رحمه الله صاحب مروءة، فقد كان معتدلًا في سَمْته وهيئته، وسلوكه ونُطْقه.

17- سمعته الحسنة والمتميِّزة:

كانت له رحمه الله سمعةً حسنة وكريمة بين الناس، استطاعَ في فترةٍ وجيزةٍ أنْ يضفي على نفسه الطَّيِّبَة وعلى غيره من الناس: السمعة الطيبة؛ لتميُّزه في سلوكه وهندامه وتقواه.

18- سرعة بديهته، وحضور ذهنه:

كان رحمه الله سريع البديهة، وحاضر الذهن في الإجابة عن الأسئلة الشرعية من مصادرها الصحيحة وفق الكتاب والسنة، وكان يجيب عن أسئلة المستفتين برحابةِ صدرٍ، وعِلْمٍ جمٍّ، وخُلُقٍ رفيعٍ.

19- مساعدته للفقراء والمحتاجين والأيتام:

كان رحمه الله عضوًا في لجنة زكاة الفحيحيل، وكان يقدِّم يد العون والمساعدة للفقراء والمحتاجين والمعوزين من الأرامل والأيتام.

20- نصحه وإرشاده:

في إحدى السنوات زُرته في لجنة زكاة الفحيحيل للسؤال عن حاله وأحواله، ولما رآني رحَّبَ بي واستقبلني بصدرٍ رحْبٍ، وأدخلني مكتبه، واستأذن مني بأدَبٍ أنَّ هذا اليوم مُخصَّص لدراسة حالات تقديم المساعدة للمحتاجين، فكان رحمه الله يستقبل حالات المحتاجين ويدرس حالاتهم ويساعدهم.

وقد دخلتْ عليه امرأة لها موعد في نفس يوم زيارتي له، وكانت معها ابنتها الصغيرة وكانت تلبس ملابس غير محتشمة، فأمرَ الشيخُ المرأةَ وقال لها: لماذا لا تلبسين ابنتكِ الصغيرة ملابس محتشمة؟!

فقالت المرأة: يا شيخ، هذه صغيرة، لما تكبر تلبس إنْ شاء الله.

فقال لها الشيخُ: ألبسيها الملابس المحتشمة في الصِّغَر حتى تعتادها في الكِبر، وقال لها: اذهبي لبيتكِ وألبسي ابنتكِ ملابس محتشمة، وتعالي فموعدكِ محفوظٌ، وسوف ندرس حالتكِ للمساعدة، وكان ذلك كله على مرأى ومسمع مني وأنا جالسٌ في مكتبه شاهدًا على هذه الحادثة.

21- مرضه ووفاته:

توفي الشيخ رحمه الله تعالى بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، وهو صابرٌ محتسبٌ على ذلك، وذلك يوم السبت 24/ 2/ 1440هـ، الموافق 3/ 11/ 2018م، ودُفِن بعد صلاة عصر اليوم التالي يوم الأحد 25/ 2/ 1440هـ، الموافق 4/ 11/ 2018م، في مقبرة صبحان، في دولة الكويت – حرسها اللهُ تعالى – وقد شيَّعه محبُّوه وأصدقاؤه وعائلته وتلاميذه، وقد شارك في تشييعه عددٌ كبيرٌ جدًّا من الناس في جنازةٍ مهيبة لوداعه.

وشيخنا الشيخ عمارة عبدالمطلب رحمه الله تعالى كان منارةً للهدى، فقد كان حال حياته أمينًا ناصحًا بيننا، وبعد مماته ذِكره باقٍ على مرِّ الأيام والأزمان.

رحمَ اللهُ عمدة المتقين، وقدوة الصالحين، وعُدَّة العلماء العاملين.


[1] زوَّقتُ الكلامَ تزويقًا؛ أي: زيَّنته وحسَّنته، والتزويق: التزيين والتحسين، والأصل في التزويق أنْ يجعل الزاوُوق مع الذهب، فيُطلى به الشيء المراد تزيينه، ثُمَّ يُلقى في النار، فيطير الزاوُوق ويبقى الذهب، ثُمَّ توسعوا في معناه حتى قالوا لكلِّ مُنقَّش ومزيَّن: مُزَوَّقٌ، وتزيين الناس للشيء يكون بتزويقهم أو بقولهم ومدحهم وذِكر فضائلهم؛ يُنظر: القاموس المحيط؛ للفيروزآبادي (1/ 892)، وتاج العروس؛ للزبيدي (35/ 163)، والمصباح المنير؛ للفيومي (ص250)، والمعجم الوسيط (ص407).

[2] قالها خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأرسلها مثلًا، وهو أول مَنْ قالها رضي الله عنه.

فهذه العبارة أصبحت مثلًا يُقال، وحكمةً تُروى لأصحابِ الهمم العالية، والنفوس العظيمة الكبيرة؛ يُنْظَر: [البداية والنهاية؛ لابن كثير (4/ 6، 7)].

Lorem Ipsum

اترك تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Tabligh - Copyright 2021. Designed by Nauthemes